فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى قال الحسن: «الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ» الحلال والحرام.
وقال السُّديّ: المؤمن والكافر.
وقيل: المطيع والعاصي.
وقيل: الرديء والجيد؛ وهذا على ضرب المثال.
والصحيح أن اللفظ عام في جميع الأُمور، يُتصوَّر في المكاسب والأعمال، والناس، والمعارف من العلوم وغيرها؛ فالخبيث من هذا كله لا يُفلح ولا يُنْجِب، ولا تَحسن له عاقبة وإن كثر، والطيّب وإن قلّ نافع جميل العاقبة.
قال الله تعالى: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} [الأعراف: 58].
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} [ص: 28] وقوله: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [الجاثية: 21]؛ فالخبيث لا يساوي الطيّب مقدارًا ولا إنفاقًا، ولا مَكانًا ولا ذَهَابًا، فالطيّب يأخذ جهة اليمين، والخبيث يأخذ جهة الشّمال، والطيّب في الجنّة، والخبيث في النار.
وهذا بيّن.
وحقيقة الاستواء الاستمرار في جهة واحدة، ومثله الاستقامة وضدّها الاعوجاج.
ولما كان هذا وهي:
الثانية قال بعض علمائنا: إنّ البيع الفاسد يُفسَخ ولا يُمضَى بحَوالة سُوق، ولا بتغير بدن، فيستوي في إمضائه مع البيع الصحيح، بل يُفْسخ أبدًا، ويُردّ الثمن على المبتاع إن كان قبضه، وإن تلف في يده ضمنه؛ لأنه لم يقبضه على الأمانة، وإنما قبضه بشبهة عقد.
وقيل: لا يُفسَخ نظرًا إلى أن البيع إذا فُسخ وردّ بعد الفوت يكون فيه ضرر وغَبْن على البائع، فتكون السلعة تساوي مائة وتردّ عليه وهي تساوي عشرين، ولا عقوبة في الأموال.
والأوّل أصح لعموم الآية، ولقوله عليه السَّلام: «من عَمِل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ».
قلت: وإذا تُتبع هذا المعنى في عدم الاستواء في مسائل الفقه تعدّدت وكثرت، فمن ذلك الغاصب وهي:
الثالثة إذا بنى في البقعة المغصوبة أو غَرَس فإنه يلزمه قلع ذلك البناء والغرس؛ لأنه خبيث، ورَدّها؛ خلافًا لأبي حنيفة في قوله: لا يَقلع ويأخذ صاحبها القيمة.
وهذا يَرده قوله عليه السَّلام: «ليس لِعْرقٍ ظالمٍ حقٌّ» قال هشام: العرق الظَّالم أن يَغْرِس الرجل في أرض غيره ليستحقّها بذلك.
قال مالك: العِرْق الظالم كل ما أخذ واحتفر وغُرس في غير حق.
قال مالك: من غَصَب أرضًا فزرعها، أو أَكْرَاها، أو دارًا فسكنها أو أَكْرَاها، ثم استحقها ربها أن على الغاصب كراء ما سكن وردّ ما أخذ في الكِراء.
واختلف قوله إذا لم يسكنها أو لم يزرع الأرض وعطّلها؛ فالمشهور من مذهبه أنه ليس عليه فيه شيء؛ وقد روي عنه أنه عليه كِراء ذلك كله.
واختاره الوَقَّار، وهو مذهب الشافعي؛ لقوله عليه السَّلام: «ليس لِعرقٍ ظالمٍ حقٌّ» وروى أبو داود عن أبي الزُّبير أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: غَرَس أحدهما نخلًا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها، وإنها لتضرب أُصولها بالفُؤس حتى أخرجت منها وإنّها لنخل عُمٌّ.
وهذا نص.
قال ابن حبيب: والحكم فيه أن يكون صاحب الأرض مخيّرًا على الظالم، إن شاء حبس ذلك في أرضه بقيمته مقلوعًا، وإن شاء نزعه من أرضه؛ وأجر النزع على الغاصب.
وروى الدَّارَقُطْنِيّ عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى في رِباع قوم بإذنهم فله القيمة ومن بنى بغير إذنهم فله النقض» قال علماؤنا: إنما تكون له القيمة؛ لأنه بنى في موضع يملك منفعته.
وذلك كمن بنى أو غرس بشبهة فله حقّ؛ إن شاء رب المال أن يدفع إليه قيمته قائمًا، وإن أبى قيل للذي بنى أو غرس: ادفع إليه قيمة أرضه بَرَاحًا؛ فإن أبى كانا شريكين.
قال ابن الماجِشون: وتفسير اشتراكهما أن تُقوَّم الأرض بَراحا، ثم تُقوّم بعمارتها فما زادت قيمتها بالعمارة على قيمتها بَرَاحًا كان العامل شريكًا لربّ الأرض فيها، إن أَحبّا قَسَما أو حَبَسا.
قال ابن الجَهْم: فإذا دفع رب الأرض قيمة العمارة وأخذ أرضه كان له كِراؤها فيما مضى من السنين.
وقد روي عن ابن القاسم وغيره أنه إذا بنى رجل في أرض رجل بإذنه ثم وجب له إخراجه، فإنه يعطيه قيمة بنائه مقلوعًا.
والأوّل أصح لقوله عليه السَّلام: «فله القيمة» وعليه أكثر الفقهاء.
الرابعة قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعجبه الخبيث.
وقيل: المراد به النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وإعجابه له أنه صار عنده عجبًا مما يشاهده من كثرة الكفار والمال الحرام، وقلة المؤمنين والمال الحلال.
{فاتقوا الله ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تقدّم معناه. اهـ.

.قال الخازن:

{قل لا يستوى الخبيث والطيب} يعني الحلال والحرام في الدرجة والرتبة ولا يعتد الردئ والجيد ولا المسلم والكافر ولا الصالح والطالح {ولو أعجبك كثرة الخبيث} يعني ولو سرك كثرة الخبيث لأن عاقبته عاقبة سوء.
والمعنى: أن أهل الدنيا يعجبهم كثرة المال وزينة الدنيا وما عند الله خير وأبقى لان زينة الدنيا ونعيمها يزول وما عند الله يدوم.
وقال ابن الجوزي: روى جابر بن عبد الله أن رجلًا قال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب» وقال مقاتل: نزلت في شريح بن ضبعة البكري وحجاج بن بكر وقد تقدمت القصة في أول السورة {فاتقوا الله} يعني فيما أمركم به أو نهاكم عنه ولا تعتدوه {يا أولي الألباب} يعني يا ذوي العقول السليمة {لعلكم تفلحون}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال، وبين جيِّدها، قَصَد به الترغيب في جيِّد كل منها والتحذيرَ عن رديئها، وإن كان سببَ النزول شريحُ بنُ ضُبيعةَ البكريُّ الذي مرت قصته في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} الخ، وقيل: نزلت في رجل سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام: إن الخمر كانت تجارتي، وإني اعتقدت من بيعها مالًا، فهل ينفعني من ذلك المال إن عمِلت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدِلْ جَناحَ بعوضة، إن الله لا يقبل إلا الطيب»، وقال عطاءٌ والحسنُ رضي الله عنهما: الخبيث والطيب الحرامُ والحلال، وتقديم الخبيث في الذكر للإشعار من أول الأمر بأن القصور الذي يُنْبىء عنه عدمُ الاستواء فيه لا في مقابِلِه، فإنه مفهومٌ عدمُ الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادةً ونقصانًا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد، لكن المتبادر اعتبارُه بحسب قصور القاصر كما في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} إلى غير ذلك، وأما قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} فلعل تقديمَ الفاضلِ فيه لما أن صِلتَه ملكة لصلة المفضول {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} أي وإن سرك كثرته، والخطاب لكل واحد من الذين أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بخطابهم، والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدَّر، وقيل: للحال وقد مر، أي ولو لم تُعجِبْك كثرة الخبيث ولو أعجبتك، وكلتاهما في موقع الحال من فاعل لا يستوي، أي لا يستويان كائنين على كل حال مفروض كما في قولك: أحسِنْ إلى فلان وإن أساء إليك، أي أحسن إليه وإن لم يُسِىءْ إليك وإن أساء إليك، أي كائنًا على كل حال مفروض، وقد حُذفت الأولى حذفًا مطَّردًا لدِلالة الثانية عليها دلالة واضحة، فإن الشيء إذا تحقق مع المعارِض فلأن يتحقق بدونه أولى، وعلى هذا السر يدور ما في لو وإن الوصليتين من المبالغة والتأكيد، وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلهما عليه، وسيأتي تمام تحقيقه في مواقعَ عديدةٍ بإذن الله عز وجل.
{فاتقوا الله يا أولى أُوْلِى الالباب} أي في تحرِّي الخبيث وإن كثر، وآثِروا عليه الطيِّب وإن قلّ، فإن مدارَ الاعتبار هو الجُودة والرداءةُ لا الكثرةُ والقِلة، فالمحمودُ القليلُ خيرٌ من المذموم الكثير، بل كلما كثر الخبيثُ كان أخبثَ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} راجين أن تنالوا الفلاح. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُلْ} يا محمد {لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} أي الردىء والجيد من كل شيء، فهو حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين النوعين والتحذير عن رديها وإن كان سبب النزول أن المسلمين أرادوا أن يوقعوا بحجاج اليمامة وكان معهم تجارة عظيمة فنهوا عن ذلك على ما مر ذكره، وقيل: نزلت في رجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي وإني جمعت من بيعها مالًا فهل ينفعني من ذلك «المال» إن عملت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أنفقته في حج أو جهاد «أو صدقة» لم يعدل جناح بعوضة إن الله تعالى لا يقبل إلا الطيب.
وعن الحسن واختاره الجبائي الخبيث الحرام والطيب الحلال، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال: الخبيث هم المشركون والطيب هم المؤمنون وتقديم الخبيث في الذكر للإشعار من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء فيه لا في مقابله، وقد تقدمت الإشارة إلى تحقيقه.
{وَلَوْ أَعْجَبَكَ} أي وإن سرك أيها الناظر بعين الاعتبار {كَثْرَةُ الخبيث}.
وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدر.
وقيل للحال أي لو لم يعجبك ولو أعجبك وكلتاهما في موضع الحال من فاعل {لاَ يَسْتَوِى} أي لا يستويان كائنين على كل حال مفروض.
وقد حذفت الأولى في مثل هذا التركيب لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فإن الشيء إذا تحقق مع المعارض فلأن يتحقق بدونه أولى.
وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلها عليه {فاتقوا الله ياأولى أُوْلِى الألباب} في تحري الخبيث وإن كثر وآثروا عليه الطيب وإن قل فإن مدار الاعتبار هو الخيرية والرداءة لا الكثرة والقلة وفي الأكثر أحسن كل شيء أقله.
ولله در من قال:
والناس ألف منهم كواحد ** وواحد كالألف إن أمر عنا

وفي الآية كما قيل إشارة إلى غلبة أهل الإسلام وإن قلوا {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} راجين أن تنالوا الفلاح والفوز بالثواب العظيم والنعيم المقيم. اهـ.